الفـــن ضرورة

من الجدير التأكيد أولاً أن أي إنسان في الوجود لا يمكنه التحرر ممّا جبل عليه من ميول ، و غرائز ، وحاجات ، فهي جزء أصيل في تكوينه الفطري . فالإنسان بحاجة للتعبير ، بحاجة إلى الجمال ..، بحاجة للمشاركة ( في حياة اجتماعية) ، وبحاجة للتقدير،.. إلخ . وبتعبير آخر : يميل الإنسان للتعبير عن ذاته ، ويميل إلى حب الجمال ، أو عشق الجمال، بل يتفاعل، وينجذب لكل ما هو جميل .

و منذ أن وجد على هذا الكوكب اهتدى الإنسان لاكتشاف إمكانات الفن ـ بأنماطه المتعددة ، والمتنوعة ـ على تلبية حاجاته للتعبير ، و منذ ذلك الحين ـ أيضاً ـ بدء مشوار توظيف طاقاتـه الفنيـة الخلاقـة على إبداع الجميل . وقد مارس الإنسان الفن كحيـاة في شتى تفاصيل الحياة . وهو ـ إذ ذاك ـ لم يتوقف عن ممارساته لشتى مجالات الفن المختلفة ، كما لم يلتفت ليدير رأسه للوراء فيتساءل عن ضرورة الفن ، أو عن مدى أهمية الفن في الحياة ، في حين مثـّل الفن ـ بالنسبة له ـ جزءًا من تكوينه ، وجزءًا من حياته . وهل يتوقف أيـّا منا ليسأل عن ضرورة الماء ، وأهميته لحياة الكائن البشري قبل أن يروي ظمأه ؟ ..، ربما يرد السؤال لاحقاً ..، ولكن ليس من باب التنكر للماء ، تمهيداً لعزله ، ومن ثم نفيه ، كما يحدث مع الفن ـ هذه الأيام ـ من قبل فئــة ممسوخــة تجـافي الحياة ، وقد تجردت من إنسانيتها السويّة ، وفقدت صلتها بكل ما هو جميل .

ولا أجد أجمل من أن أختم هذه الفقرة بعبارة (رينيه ويـج) ، وذلك فيما يتـَّصل بضرورة الفن ، وعلاقته بالإنسان، تلك التي يذكر فيها أن : " الفن ليس لهواً أو مجرد ترف، مهما يكن هذا الترف رفيعاً، بل الفن ضرورة ملحة من ضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها. فإذا صح القول ألا فن بلا إنسان، فينبغي القول ألاّ إنسان بلا فن " (إسماعيل، 1974: 7) *..،

راضي بن صالح الطويل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إسماعيل، عز الدين (1974): الفن و الإنسان . بيروت – لبنان ، دار القلم .

الفن المعاصر، أو ما كان يعرف بالفن المعاصر


ما هو الفن المعاصر، أو ما كان يعرف بالفن المعاصر
(Octavian Esanu) أوكتفيان إيسانو
ترجمة  راضي بن صالح الطـويل  
أثار الفن المعاصر اهتماما متزايداً طيلة القرن الماضي، وعلى الأخص من قِبل مؤسسات الفن العالمية حين بدأ النقاد ومؤرخو الفنون التساؤل عن ماهية هذا الفن. ولم يقتصر التساؤل ـ فقط ـ على أي نوع من الفن بات يمارس آنذاك، حيث كرّس مصطلح "الفن المعاصر" معان وتعبيرات عديدة، يعتمد كل منها على السياق، أو المجال الذي تستخدم فيه، الأمر الذي قد يشير إلى أشياء مختلفة، ومتعددة. غير أن الاهتمام بما سمي بالفن المعاصر ـ الذي هيمن على الحوارات النقدية خلال العقود السابقة ـ أخذ في التلاشي مع بدء الاهتمام بفنون ما بعد الحداثة وظهور مصطلحات بديلة، مما يوحي بتعديل أدوات النقد الفني. وأثيرت حول المعاصرة العديد من التساؤلات: هل أن المعاصرة شكل جديد من أشكال الحداثة، وهل يعتبر مفهوم المعاصرة مفهوماً مرحليّا جديدا،وهل أن " الفن المعاصر" مصطلحاً  مرحليّا، أو أنه مصطلح (جمالي ذوقي)، أو كلاهما؟، هل يشير المصطلح إلى فترة تاريخية، أو إلى نموذج جديد من أساليب الإنتاج الفني؟، وما الذي يجب علينا فعله إزاء العلاقة مابين فن ما بعد الحداثة، والفن المعاصر، ومدى علاقتهما بالفن الحديث؟.
يبدو أن ما كان يعرف بالفن المعاصر يختلف عن فن ما بعد الحداثة في جانب واحد جدير بالملاحظة، حيث يمتلك الفن المعاصر وجوداً محدداً يتمثل في مراكز، ومتاحف فنية، وأسواق وغيرها، هذا فضلاً عن استخدامات مصطلح الفن المعاصر في مجالات فنية، وثقافية عديدة.
يشير مصطلح الفن المعاصر هذه الأيام ـ أي فن ما بعد الحداثة ـ إلى نمط من الإنتاج الفني ازدهر في المرحلة الأخيرة من الرأسمالية العالمية التي تعرف بالليبرالية الجديدة في بعض البلدان، و بالمحافظة الجديدة في بلدان أخرى. كما يمكن فهم مصطلح الفن المعاصر في بلدان أوروبا الشرقية على أنه يمثل مرحلة زمنية لنوع من السلوك الفني، رافقت انتقال هذه البلدان إلى مرحلة ما بعد الاشتراكية، وبروز العديد من المبادرات المحلية، والأجنبية بدعوى التجديد، والعصرنة، و"التحول إلى الديمقراطية"، الأمر الذي انعكس بدوره على الفن. وقد مُوِّلت ـ من الخارج ـ مؤسسات فنية جديدة تروج أنماطاً من الإنتاج الفني، وكانت شبكة مراكز سورس للفن المعاصر ((SCCA الأكثر فعالية في هذا المسعى .
إن رسالة SCCA تعليمية، قبل أن تكون خيرية، وهي ذات سياسات، وأهداف محددة، كنشر الديمقراطية، والوصول إلى ارتباط ثقافي أوسع. وكان على الفنانين كي يبقو أحياء (فنياً) أن يستجيبوا " فنيا " لبرامج SCCA، ومشاريعها. وأثارت SCCA سلسلة من الأسئلة الهامة عن دور الفنون والفنانين في مجتمع ما بعد الاشتراكية، وعلاقة الفنان بمؤسسات الفن المستقلة، ورعاية المصالح الاقتصادية للفنان .
تباين المؤسسات الفنية :
صنف النقاد في بداية التسعينات نموذجين مختلفين من المؤسسات الفنية في أوربا الشرقية، واستخدموا مصطلح " الفنون الجميلة " ، ومصطلح " فن النخبة " لوصف إحداها، بينما استخدموا مصطلح"معاصر"، و"ديمقراطي" لوصف الأخرى. و منذ المراحل المبكرة من تنفيذ برامج SCCA وجدت العديد من مراكز سورس نفسها في موقف المعارض للنقابات الفنية كنتيجة لتباين المهام، وأساليب العمل. وتقتصر المجالات الفنية في النقابة على: الرسم، والنحت، والجرافيك، والديكور، والتأليف الموسيقي، والمسرح، كما تشرف النقابة على كل الجوانب الحياتية للفنانين الأعضاء. أما مراكز سورس فهي مفتوحة لجميع المجالات، كما أن مكاتبها مفتوحة ـ أيضاً ـ لأي شخص، ودون اشتراط العضوية. واكتسب نموذج الفن المعاصر شعبيته، وذلك بفضل مراكز سورس، وأجندتها المختلفة (فنيا، وذوقيا، وجماليا). وترتب على هذا التباين بين الاتجاهات الفنية المتعارضة آثار واسعة على الإنتاج الفني، حيث كان كل اتجاه يشجع نمطاً مختلفاً من الإنتاج الفني.
يتفق نموذج نقابة الفنانين مع نموذج الفنون الجميلة لدى (ديوف) الذي يفترض أن الإبداع الفني يستلزم موهبة. أما نموذج الفن المعاصر فهو ينسجم مع شعار" كل شخص فنان" لجوزيف بيويس، حيث لا تعتبر الموهبة ذات أهمية، كما لم يعد هذا الفن (المعاصر) وقفاً على نمط، أو أسلوب، أو تقنية، أو مجال معين من أنماط الفنون الجميلة، كما لم يعد في هذا الفن مكان لنظام التدريس، أوالتلمذة، وحل مفهوم ابتكار سمات المعاصرة مكان مفهوم المحاكاة.
العمل الفني المعاصر
افتتحت مؤسسة سورس في المجر عام 1985، وكانت المهمة الأساسية لبرنامج سوروس دعم الثقافة الهنقارية الحديثة. وفي عام 1991 حدث الانتقال التاريخي إلى الفن المعاصر حين عدلت تسمية المؤسسة من سوروس للفنون الجميلة إلى مركز سوروس للفن المعاصر في بودابست. ونظرا للدور الرئيس الذي يلعبه التوثيق في نشاط المؤسسة يلاحظ أن النقاد والمؤرخين يشكلون معظم موظفي شبكة سوروس، وأعضاء مجلس إدارتها. ويعتبر توثيق الفنون أحد فروع علم التوثيق الذي ظهر في النصف الأول من القرن العشرين. ويحاول  نقاد الفن البرهنة على أن الوثائق الفنية تشكل البديل عن الخبرة الفنية (على غرار نظرية الناقد بنيامين الفن الحديث) "توثيق الفنون بالتعريف ليس فن، بل يشير فقط إلى الفن". وبدأت الوثائق الفنية تحتل دورا أكثر بروزا خاصة بعد تحول مفهوم الفن من كونه ـ في المقام الأول ـ يمثل إنتاج أشياء ملموسة (لوحات ومنحوتات ورسومات) ليشمل أشياء غير مادية، أو خبرات فنية فكرية (الإجراءات، والأداءات، والمفاهيم). وقد كان لاستخدام مارسيل دوشامب الأشياء الجاهزة الأثره البارز في هذا التحول.
وقد بدا واضحا أن أهداف برنامج مؤسسة سورس ـ في أوروبا الشرقية خلال التسعينات ـ لم تكن فنية بحتة، بل هي متشابكة على نحو وثيق مع برنامج سياسي  وعلى عكس نقابات، أو اتحاد الفنانين، الذين يقضون معظم أوقاتهم في الاستوديوهات، يقضي معظم الفنانين المعاصرين معظم أوقاتهم في المكاتب، ويمكن للمرء أن يشهد ولادة فنان من نوع جديد يشبه رجل أعمال المقاولات ، ويتعامل ـ جلّ وقته - مع الوثائق، والمستندات .

الخطة والمشروع
تعتبر الخطة الاشتراكية مظهر من مظاهر النوايا الشاملة، أو شكل عالمي لعرض النوايا، وينطوي العرض على نطاق واسع من القرارات الشمولية التي تنفذ خلال فترات زمنية كبيرة، بل هو اقتراح ضخم، يحاول وصف متغيرات، وتفاصيل متعددة. 
يهتم المشروع فقط بكل ما هو محسوس، وملموس، قابل للتخطيط، وللتحقيق، وقابل للحساب. ويرتبط التفكير بالمشروع ببعض التقاليد من الأفكار الغربية، وهو أداة لا غنى عنها للسوق الرأسمالية الحرة المعاصرة. وبعد أن بات المشروع ـ كعمل موجه، ومحسوب ـ جزءا لا يتجزأ من استراتيجية الفن المعاصر، كان على الفنانين، والمؤسسات الثقافية التعاون مع مراكز الفن المعاصر، والمشاركة في الورش التي ينظمها خبراء غربيون، وتعلم كيفية وضع المشاريع، وتنفيذ الاستراتيجيات، وإنتاج وثائق، أو كتابة عروض المنح . 
لقد حدث التبدل في مفهوم الفن كنتيجة للتغييرات التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية. ومن وجهة نظر تاريخية، فإن مراحل نشأة الفن المعاصر في دول ما بعد الاشتراكية تعيد صدى مماثل لعملية التحديث التي شهدها الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين .

                                              


هناك تعليق واحد:

  1. ممتاز جدااااااااااااااااااااااااااااااااااا

    ردحذف