مع
الفنان الشهير بابلو بيكاسو في بعـضٍ من روائعـه :
(1) تراجيديـــــا
( Tragedy)
تراجيديــــا (زيت على
خشب،
: (1.053 m x 0.690 m أحد أعمال بيكاسو المبكرة التي أنجزها في العام 1903. وهو من مجموعة Chester Dale ، حيث يوجد ـ حالياً ـ في صالة الفن الوطنية في واشنتن) National
Gallery of Art, Washington ) .
ينتمي العمل
للاتجاه ما بعد تأثيري، ويُظهر بوضوح تأثر بيكاسو بالسيزانية البنائية (نسبة إلى
الفنان بول سيزان) ، حيث لم يحن الوقت آنذاك لظهور الاتجاه التكعيبي . ويمثل هذا العمل ـ بخطوطه الرصينة ، والأجسام الرأسية الممتدة
، ذات الطول الفارع ، إلى جانب اقتصاره على الدرجات اللونية الزرقاء القاتمة ـ
حلقة من نتاج المرحلة الزرقاء ، إحدى المراحل الفنية التي عبرها بيكاسو خلال
مشواره الفني المدهش .
يصور بيكاسو في هذا العمل إحدى الأسر الفقيرة
والبائسة ، المكونة من زوجين مع طفلهما الوحيد ، وإذ حرمت الأسرة من المأوى الذي
يسترها ويقيها من برودة الشتاء ، ها هي تقف حائرة بجانب اليم ، حافيةً فوق أرضية
الشاطئ الباردة ، خائرة القوى ، منكِّسةً رؤوسها الحاسرة من شدة الوهن
والتعب ، وربما الجوع ، مترددة بين أن تبقى ـ هكذا ـ في مهب الريح ، أو ترحل إلى
مكان آخر ، ولكن هل ثمة ملاذ آخر يأويها ؟؟..
الشمس تحجبها
الغيوم ، و النهار أشرف على الرحيل، فهل
يتلطف ويأخذ معه الهمَّ حين يرحل ؟؟ ..، هل يبدد الحزنَ ، هل ينهي ـ برحيله ـ قصة
البؤس المحفورةِ على جباه المحرومين؟؟ ..، أم أن القدر قد خبأ للثـلاثة ليلـة شقاء
لا يبين لها صبح ؟؟ ..، أسئلة تلـو أخرى تطوف في الأذهان ، تدق ناقوس الغيب ، بيد
أنها تظل عالقة دونما جواب، غير هدير الموج ، وصفير الرياح ! ..
قسّم بيكاسو
اللوحة أفقياً إلى ثلاثة قطاعات . وضع القطاع الأكبر الذي تحتله قبة السماء في
أعلى اللوحة ، والقطاع الأوسط في أسفل اللوحة
حيث استقرت أرضية الشاطئ ، أما القطاع الأصغر فيشغل المنتصف حيث يرخي البحر
أمواجه المتهادية ، في علاقة أزلية، ومتقلبة مع الشاطئ، لا تستقر على حال ، فتعكس
ـ على نحو ما ـ علاقة الإنسان ذاته مع
الحياة . كما قسم اللوحة رأسياً إلى قطاعين : تتمركز الأم في القطاع الرأسي الأصغر ، في يمين اللوحة ،
ويتمركز زوجها ، و ابنهما في القطاع الرأسي الأكبر، في يسار اللوحة .
أنجز بيكاسو العمل
/ اللوحة باستخدام الدرجات اللونية الباردة المشتقة من الأزرق الممزوج ـ حيناً ـ بالأبيض ، و أحياناً أخرى
بالأسود ، وبالأخضر ، إضافة إلى اللون الوردي الشاحب. وتظهر الدرجات اللونية
الزرقاء الداكنة في ملابس الزوجين لتعكس قتامة الموقف، والأسى الذي يغلف
مشاعرهما ، وحزنهما المقيم بين الضلوع مذ
أناخ برحله في قلبيهما المتعبين . أما الطفل البريء فلم تكن ملابسه معتمة بنفس
القدر، وقد بدا على وجهه المزيد من الضوء ليعكس إشراقة الأمل في غد أفضل ـ للأسرة
ـ ربما يتحقق من خلاله هو . أمّا وجهَي والديه
فقد اتشحا بسحابة زرقاء طغت على لون البشرة الوردي وامتزجت به، وبخاصة لدى المرأة.
يقف الرجل في
وضع شبه جانبي ، ملتفاً بنحو خمس وأربعين درجة ليقابل إمرأته التي تقف في مواجهته
وعلى مسافة قريبة منه للغاية ، منكسة رأسها إلى الأسفل، وموجهةً ناظريها بالتفاتة
حانية تجاه ابنها الذي يقف إلى جانب والده ، في إشارة ـ من الفنان ـ إلى ذهول الأم
، وانشغالها بابنها عن كل مايجري ، فمصير الطفل هو أكثر ما يهمها في هذا الموقف ، وفي
الحياة ككل . وكدليل على حيرة الأسرة ، وترددها تبدو الأم واقفة في حالة من الوجوم
، أو السكون التام ، كتمثال صخري تم نحته حيث تقف ، في حين يظهر زوجها رافعاً إحدى
رجليه بالقدر الذي يبقي على مقدمة طرف من أصابعها ملامسة لرمل الشاطئ ، بينما
لاتزال الرجل الأخرى ملتصقة بالأرض . أما الطفل فقد بدا كأنه توقف للتو ، أو أنه
يتهيأ للمشي من جديد ، وذلك من خلال ما نلاحظه من حركة جسمه ، ورجليه التي تتقدم
إحداهما الأخرى بينما بقيتا في حالة ثبوت على الأرض. وبدت يداه مثنيتان عند الكوع
، تاركاً الساعدين في امتداد أفقي للأمام ، رافعاً بقدر بسيط كف اليمنى لتلامس جسم
أبيه الذي يستمد منه الأمان . وقد أبقى كل من والديه أيديهما مثنية ، وملتفة حول
بعضها ، مخبئة الأكف وملتصقة بصدريهما علّهماً يحصدان قدراً من الدفء .
ولعلّ هذا
العمل / تراجيديــــا ( Tragedy) يكشف لنا عن مدى إنسانية هذا الفنان العملاق، وعن أحاسيسه
المرهفة ، و النبيلة ، وضميره اليقظ ، النابض بالحياة على الدوام ، إلى جانب تفاعله
العميق بالمآسي الإنسانية ، وما يكتنف حياة المحرومين والمشردين من بؤس .
راضي بن صالح الطويل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق